تركيا وسوريا- انعكاسات الإطاحة بالأسد على السياسة الداخلية التركية

المؤلف: سمير العركي09.29.2025
تركيا وسوريا- انعكاسات الإطاحة بالأسد على السياسة الداخلية التركية

عبارة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، "تركيا قد تتأخر في فعل اللازم، لكنها تفعله بالنهاية"، تلخص بجلاء النهج الذي تتبعه الدولة التركية في التعاطي مع الأزمات المختلفة، وتعتبر الأزمة السورية مثالًا حيًا على ذلك.

فبين عامي 2016 و2020، شنت تركيا أربع عمليات عسكرية متتالية داخل الأراضي السورية، بهدف تطهير المنطقة الحدودية من التنظيمات الانفصالية التي تصنفها تركيا على أنها إرهابية، والتي تعتبر امتدادًا لحزب العمال الكردستاني PKK.

وعلى مدى أربع سنوات، عملت تركيا بدأب على تثبيت الأوضاع في سوريا، مع مواصلة جهودها في مكافحة الإرهاب من خلال تبني أساليب متنوعة. كما لم يغفل المراقبون للملف السوري عن الجهود الحثيثة التي بذلتها تركيا لإعادة تأهيل فصائل المعارضة السورية المسلحة، وتحويلها إلى كيانات أكثر انضباطًا وتنظيمًا.

لذا، مع بدء عملية ردع العدوان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، اتجهت الأنظار بشكل خاص نحو تركيا، باعتبارها الداعم الرئيسي لفصائل المعارضة السورية بمختلف أشكال الدعم.

واليوم، مع النجاح الباهر الذي حققته المعارضة السورية في الإطاحة بالرئيس السوري، بشار الأسد، تضاعفت المكاسب الإستراتيجية لتركيا على الصعيدين الخارجي والداخلي بشكل ملحوظ. وفي هذا المقال، سنركز بشكل خاص على استعراض تأثيرات هذا التطور على الداخل التركي.

جدل سياسي حاد

أثارت التطورات العسكرية المتلاحقة في سوريا منذ بدايتها، جدلاً واسعًا بين الأحزاب السياسية التركية، وصل إلى حد تبادل الاتهامات الحادة، وذلك على خلفية التباينات الأيديولوجية العميقة.

فزعيم حزب الحركة القومية MHP "يميني"، دولت بهتشلي، عبّر عن سعادته الغامرة بتحرير مدينة حلب، معتبرًا ذلك شعورًا ي shared به كل مواطن تركي، ومؤكدًا أن حلب "تركية ومسلمة حتى النخاع"، مطالبًا الجميع بالعودة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا.

ولفهم تصريحات بهتشلي ووضعها في سياقها الصحيح، يجب التذكير بأن ولاية حلب خلال فترة الدولة العثمانية كانت تعتبر الولاية الأهم والأكبر، وتمتد جغرافيًا من حلب الحالية لتشمل مناطق واسعة من شمال سوريا، بالإضافة إلى ولايات الجنوب الشرقي الحالية في تركيا، وصولًا إلى مدينة مرعش.

هذه المساحة الجغرافية الشاسعة، خلفت إرثًا حضاريًا وثقافيًا وديموغرافيًا مشتركًا ومتنوعًا، لم يتمكن التقسيم اللاحق للولاية بين دولتي تركيا وسوريا من طمسه أو محوه.

لكن في المقابل، كان هناك استياء واضح من حزب الديمقراطية والمساواة DEM "يساري كردي"، حيث طالبت الرئيسة المشاركة للحزب، تولاي أوغولاري، أطرافًا لم تحددها بالاسم، ولكن كان من الواضح أنها تقصد الحكومة وحلفاءها، بعدم الوقوع " فريسة للحماس والانتهازية لتدمير مكتسبات الأكراد في سوريا وروج آفا (تشير إلى شمال سوريا وتعني غرب كردستان)".

كما استنكرت تولاي استهداف التنظيمات التابعة لحزب العمال PKK في سوريا، معتبرة أنه "من المستحيل توجيه الرمح للأكراد الذين يعيشون في روج آفا، ومد غصن الزيتون للأكراد في تركيا!".

ولم يكتفِ الحزب بذلك، بل صعّد من هجومه، حيث اتهمت نائبة رئيس المجموعة البرلمانية للحزب، غولستان كيليتش، الدولة بمحاولة "غزو سوريا واحتلال حلب"، وذلك على خلفية رفع العلم التركي فوق قلعة حلب التاريخية.

ورد رئيس حزب الاتحاد الكبير BBP "يميني"، مصطفى ديستجي، على تصريحات غولستان، مؤكدًا أن مناطق سورية مثل عين العرب "كوباني" والحسكة وغيرها ليست مناطق تابعة لحزب العمال، حتى يتم احتلالها، وأضاف: إن "تركيا لن تركع أمام الإرهاب وامتدادات المنظمات الإرهابية والقوى الإمبريالية التي تجعل من الإرهاب مشكلة لأمتنا!".

علاوة على ذلك، فإن الإطاحة بنظام بشار الأسد ستحرم المعارضة التركية، وخاصة حزبي الشعب الجمهوري CHP "يساري أتاتوركي"، وحزب السعادة SP "إسلامي"، من ورقة مهمة كانوا يستخدمونها ضد أردوغان في إطار الصراع الحزبي المحتدم.

انحسار الإرهاب

هذا الجدل العنيف بين الأحزاب التركية، والذي أشرنا إليه على خلفية تطورات الملف السوري، لا يمكن فهمه بشكل كامل إلا في إطار نقاش أوسع حول قضية الإرهاب التي تعاني منها تركيا منذ عقود طويلة.

ففي الأسابيع القليلة الماضية، فوجئ الرأي العام التركي بمبادرة غير مسبوقة من رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، دعا فيها زعيم حزب العمال، المسجون حاليًا، عبدالله أوجلان، إلى القدوم إلى البرلمان والتحدث إلى أعضاء الكتلة النيابية لحزب المساواة والديمقراطية الشعبية، والإعلان عن حل التنظيم وإلقاء السلاح، مقابل إمكانية العفو عنه.

هذا العرض الاستثنائي من زعيم قومي له مكانته الرفيعة وتأثيره الكبير مثل بهتشلي، قوبل بردود فعل إيجابية من الرئيس، رجب طيب أردوغان.

لكن في الوقت نفسه، لم يكن الحل الأمني غائبًا عن المشهد، فقد اتخذت الدولة عددًا من التدابير الاستثنائية، بما في ذلك عزل بعض رؤساء البلديات وإحالتهم إلى جهات التحقيق بتهمة التعاون مع الإرهاب.

كما استمر الحديث حول إمكانية شن عملية عسكرية في شمال سوريا لطرد التنظيمات السورية التابعة لحزب العمال الكردستاني من منطقة غرب الفرات.

لكن الإطاحة بنظام بشار الأسد ستمنح تركيا قوة إضافية في هذا الملف، خاصة مع نجاح قوات الجيش الوطني في طرد تنظيم وحدات الحماية الكردية YPG من مدينة تل رفعت في ريف حلب الشمالي، وهو المصير الذي ينتظر قوات التنظيم في مدينة منبج في أي لحظة.

بالإضافة إلى ذلك، أعلن وزير الدفاع، يشار غولار، في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي قبل يوم واحد فقط من انطلاق عملية ردع العدوان، عن تطهير منطقة الزاب في شمال العراق من تنظيم حزب العمال الإرهابي.

كل هذه التطورات ستشكل ضغطًا هائلاً على الداعمين السياسيين للتنظيم داخل تركيا، وفي مقدمتهم حزب المساواة والديمقراطية الشعبية، وكذلك على أوجلان نفسه، مما قد يزيد من قناعتهم بعدم جدوى استمرار التنظيم المسلح، وعبثية استمرار المواجهات الدموية المستمرة منذ أكثر من 40 عامًا، وأن الخيار الأمثل للقضية الكردية هو الانخراط الكامل في العملية السياسية، خاصة مع زوال نظام البعث السوري، الذي كان أحد أهم الداعمين التاريخيين لحزب العمال.

حل أزمة اللاجئين

يترقب الجميع في تركيا أن تؤدي هذه التطورات الإيجابية إلى حل أزمة اللاجئين السوريين، الذين يقدر عددهم وفقًا للإحصائيات الرسمية بحوالي 3 ملايين لاجئ.

هذه الأزمة الإنسانية المعقدة والحساسة للغاية، تم استغلالها سياسيًا على مدار السنوات الماضية، ولعبت دورًا في الخسائر التي مني بها حزب العدالة والتنمية الحاكم، على مستوى البرلمان والبلديات.

كما ساهمت هذه الأزمة في صعود أحزاب يمينية متطرفة تبنت خطابًا تحريضيًا وقادت بعض الشرائح المجتمعية إلى ارتكاب انتهاكات بحق اللاجئين السوريين.

لكن استعادة الثورة السورية سيطرتها على العديد من المدن، وفي مقدمتها حلب ثم كامل الأراضي السورية، ستتيح الفرصة لعودة المزيد من اللاجئين في المستقبل القريب، مما سيخفف الضغط على الداخل التركي.

فبحسب وزير الداخلية، علي يرليكايا، فإن أكثر من 1.2 مليون لاجئ هم من مدينة حلب وحدها، مما يعني أن استقرار الأوضاع هناك سيمكن حوالي 42% من اللاجئين في تركيا من العودة الطوعية إلى ديارهم، بالإضافة إلى حوالي 190 ألف لاجئ آخرين من محافظة إدلب، التي تمت السيطرة عليها بالكامل.

هذه الأرقام مرشحة للتضاعف في حال تم تهيئة الظروف المناسبة في بقية المناطق السورية، مما يسمح بعودة اللاجئين من تركيا، بالإضافة إلى النازحين على الحدود التركية السورية.

هذه العودة، إذا تحققت، ستفقد الأحزاب العنصرية ورقة ضغط مهمة كانوا يستخدمونها ضد الحكومة، ومتنفسًا كانوا يعتمدون عليه لتعويض ضعف شعبيتهم.

ولا ننسى أن حل أزمة اللاجئين السوريين سيساعد الحزب الحاكم على استعادة بعض خسائره السياسية التي تكبدها على مدار السنوات الأخيرة.

الطريق إلى 2028

لا نبالغ إذا قلنا إن تأثير الإطاحة بنظام بشار الأسد وحزب البعث، وخاصة إذا اتجهت الأوضاع نحو الاستقرار وإعادة بناء نظام سياسي جديد، سيساهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي التركي استعدادًا للاستحقاقات الانتخابية المقبلة في عام 2028، وذلك من خلال عدد من المتغيرات الهامة، أهمها:

  • تخلي بعض القوى السياسية، وخاصة الكردية، عن رهانها على حزب العمال الكردستاني وقدرته على تأسيس كيان انفصالي في شمال سوريا، وبالتالي اختيار الانخراط الكامل في العملية السياسية.

ومن ثم، ازدياد قناعة تلك القوى بالمشاركة الإيجابية في وضع دستور جديد للبلاد، مما قد يفتح الباب أمام أردوغان للترشح مرة أخرى إذا ما رغب في ذلك.

  • استعادة حزب العدالة والتنمية زخمه السابق، والاستمرار في الحفاظ على موقعه في صدارة الأحزاب السياسية بفارق مريح، خاصة إذا تحسنت الأوضاع الاقتصادية وانخفضت نسب التضخم المرتفعة.

وخلاصة القول، إن نهاية حقبة البعث السوري وحكم "آل الأسد" تمثل بمثابة "تسونامي" سياسي، ستترك تداعياتها العميقة ليس على الداخل التركي فحسب، بل على المنطقة بأسرها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة